من بعد الرمز .. تأتى العقيدة التى تشكل الزاوية الثانية فى المثلث النظرى السابق تحديده فى المقال السابق ( الرمز- العقيدة – الفن ) .. والعقيدة المصرية القديمة كانت ولازالت محل فضول وشغف .. كما أنها كانت ولا تزال أيضاً تتعرض للتشويه الفكرى ، على الرغم من إعتراف الكثير من علماء العالم وخاصةً فى مجال الأديان المقارنة بفضـلها علـى الفكر الإنساني بشكل عام .
فإذا كانت الرمزية هى أولى وأشهر سمات الفن القبطى وخاصةً القديم .. حيث عرف ببُعده عن كل الماديات وتقربه من عالم الروحانيات..فيبدو أن هذه السمة الرئيسية لهذا الفن ليست ســـوى إرثاً عن الرمزية فى الفن المصرى القديم ..، وهو ذاته الفن الذى ارتبط بالعقيدة وكان الهدف منه التواصل مع عالم المقدسات فى حياة أخرى خالدة .. فكان هذا الهدف هو نفسه عند القبطى أى المصرى المسيحى والذى ظهرت فى فنونه بشتى أشكالها العديد من الرموز والأفكار الفلسفية التى استخدمها المصرى القديم ..، ويبدو – كما تعتقد الكاتبة – أن المصريين فى حد ذات شخصياتهم على علاقة أزلية مع الرمز أياً كانت طبيعته .. تشكيلية أو تعبيرية ..
فالأمثال الشعبية يمكن أن نعتبرها رموزاً لقصص ومآثر يستخدمها الإنسان المصرى فى لحظات حياته المختلفة وحتى يومنا هذا..والفنون الشعبية غنية بالرموز وخاصة تلك التشكيلية ..كما أن الفنون الإسلامية فى مصر منذ بداياتها تتجه مباشرة فى تعبيرها نحو عالم الرموز.. مستخدمةً فى ذلك الأشكال الهندسية والنباتية والحروف والكتابات العربية المحورة .. فهذا كله يشير إلى موقع الرمز من عمق التاريخ المصرى اياً كانت حقبه وأزمانه .. عقائده ودياناته .
والحقيقة أن فكرة مقارنة العقيدة المسيحية بالعقيدة المصرية القديمة لا تنال من قدسية الأولى فى شئ ولكن العكس هو الصحيح .. فهذه المقارنة هى بالأحرى بمثابة التأصيل الفكرى الذى يؤكد على أصالة هذا الفكر العقائدى بالرغم من الاختلاف فى الجوهر فى كل من العقيدتين .. بل إن هناك العديد من الإخوة المسيحيين المعاصرين وذوى الفكر المتسامح من يحاول دائماً المقارنة والتشبه فى العديد من العادات المسيحية الشرقية أو حتى الغربية بتلك العادات الأصلية للمصرى القديم ..، ولا يرى جمهور المثقفين وخاصةً من الإخوة المسيحيين عيباً فى التوافق بين الكثير من مبادىء أو طقوس العقيدة المصرية القديمة والعقيدة المسيحية على اعتبار أن الأولى كانت بمثابة تمهيدات للمسيحية .. حيث أن الله حسب ما جاء في الكتاب المقدس قد خلق شواهد تدل عليه فى عصر وحضارة .
ولا يستحي العالم الغربى من نسْب العديد من الرؤى الفلسفية المسيحية فى مجتمعاته الى رؤى فلسفية تعود الى العصور الكلاسيكية للحضارتين اليونانية والرومانية وهى حضارات قد عرفت بأنها وثنية..فلقد انتهت عصور محاكم التفتيش .. وعلى كلٍ فإن بحث الإنسان الدؤوب فى مجال الأديان المقارنة يتأكد لديه يوماً بعد يوم أن جوهر الأديان فى عمر الإنسانية هو واحد منذ نشأته.. والذى يختلف من مجتمع إلى آخر هو الشكل والتأويلات الفلسفية والطقوسة.. وإن كانت تلك الأخيرة قد تشابهت فيما بين العديد من المجتمعات عابرةً حدود الزمان والمكان .. نتيجة لهذا الجوهر الواحد .. وأيضاً لأن الإنسان رغم اختلاف لونه وتراثه إلا أن جوهر تكوينه أيضاً واحد.
والعقيدة المصرية القديمة هى عقيدة أصيلة فى عمق تاريخ الإنسـان المصرى منذ بداياته .. فبالرغم من تعدد الأسر الحاكمة المصرية القديمة واختلاف شكل وأثر المقدسات من أُسر حاكمة إلى أخرى وفيما بين المدن والأقاليم المصرية وكذلك عصور الاضمحلال أو الاضطراب التى واكبها تخلف فكرى مقارنة بما كان يسبقها أو يليها.. وكذلك بالرغم من تطور شكل هذه العقيدة وخاصةً فى تأويلاتها الفلسفية وأساطيرها عبر فصول التاريخ المصرى القديم.. وبالرغم من أن هذا التطور قد جعل عدداً من العلماء يحاولون الإشارة والتأكيد أحياناً على أن العقيدة المصرية القديمة هى مجموعة من العقائد وذلك ربما لسلب المصرى القديم أحقيته فى كونه أول انسان ذى عقيدة واحدة ناضجة .. وإن لم يكن بسوء نية فهو بسوء فهم ..ولكنه أدى إلى نفس النتيجة ..وهى تضليل الرؤية الواضحة لنضج الفكر المصرى القديم مقارنة بعصره .. وكانت أفضل الطرق لدى هؤلاء العلماء للتدليل على هذا الأمرهو الإشارة إلى كثرة وتعدد الأشكال الحيوانية التى اتخذتها الأقاليم كمقدسات لها..وهى فى حقيقة الأمر وكما تجرأ وأقدم على اثبات ما هو عكس ذلك العالم الأمريكى اليهودى (هنرى بريستد) فقال ” وقع الناس فى الخطأ حين اعتقدوا أن قدماء المصريين عبدوا الحيوانات ، إنما كانت رموزاً للعواصم والمدن “..
ولكن بالرغم من كل ذلك يستطيع الباحث الموضوعى وخاصةً الأكثر حداثة واستقراءً للدلائل .. أن يرصد القوام الرئيسى لهذه العقيدة بشكل عام طوال آلاف من السنين.. فهو واحد منذ بدايتها بل وقبل حتى عصر الأسرات.. وإنما كانت الإختلافات فى مدى قوة بعض المقدسات فى فترات زمنية معينة على غيرها من المقدسات الأخرى.. وتلك كلها كانت ألعاب سياسية من تخطيطات الكهنة المصريين..، ولكن كان هناك دائماً خط واحد قد اصتفت عليه أشكال ورموز المصرى القديم .. ولعل الإيمان بالحياة الآخرة هو ذلك الخط الجامع والواصل بين كل هذه الأشكال وتلك الرموز والمقدسات..فهذا الخط أو الحد الفاصل هو جوهر العقيدة المصرية القديمة..بل وعلى رأس أولوياتها ..، فسواء كان اللاهوت المنفى أو لاهوت (اون)§1 أو غيرهما فدائماً ظلت الحياة الأخرى الأبدية تشكل منتهى آمال المصرى القديم.. وهو ما يجعلنا فى هذا البحث دائماً ما نردد كلمة عقيدة وليس عقائد ..
ولقد انعكست هذه الوحدة وهذا الثبات النابع من الإيمان الناضج على مسار الفنون التشكيلية وهو ما يؤكد وحدة الفكر العقائدى عند المصرى القديم ، فالفنون التشكيلية عنده كانت تعبر عن هذه العقيدة حيث ظهرت سماتها واحدة بشكل عام على مر العصور المختلفة لتاريخه .. وهو ما لم يتسن فى العديد من الحضارات القديمة الأخرى المعاصرة للحضارة المصرية .. وعلى سبيل المثال نجد أن الفنون التشيكيلية فى حضارات بلاد النهرين قد أتت مختلفة عن بعضها البعض .. فحتى كلمة حضارات تعبر عن الاختلاف فى الزمان والمكان والرؤية الإنسانية ( السومرية - الأكادية - السومرية الجديدة أو الثانية - البابلية - الكاشية الآشورية - البابلية الجديدة ).. ، بينما يجسد الفن عند المصرى القديم ولآلاف من السنين المعنى الحقيقى للتواصل والاستمرار والتكيف العصرى وليس الجمود والتوقف فى الإبداع كما يشاع عنه أحياناً..فالفن فى تعبيره عن الفكر لديه كان متواصل باستمرار تواصل هذا الفكر العقائدى ..وربما كان طول زمن هذا التواصل وثقله من أهم الأسباب التى جعلت هذا الفكر ذى تأثير قوى على ما تلاه من حضارات وثقافات وعقائد على نفس بقاع الأراضى المصرية وخارجها أيضاً.
وتجدر الإشارة هنا الى أن ذكر كلمة ” عقيدة ” لا يجب أن يمر بشكل عابر .. ولكن أن يؤخذ فى الاعتبار البعد الروحانى للكلمة ، وهو ما أوضحه المؤرخ والمفكر طارق البشري حين ذكر : ” فالعقيدة هى ما انعقد فـى النفس أو العقل وهى مسلمة ، لأنها تحتضن دليلها فى ذاتها وتستمده من ذاتـها وتدور معه “، ” والدين يعتمد على الاعتقاد بوجود الذات الإلهية بالغيبية ، أى التى لا يمكن العلم بكنهها ولكن يمكـن إدراك آثارها ، مع العلم بأنها مطلقة القدرة والقوة وأنها واجبة الطاعة والعبادة بالطريقـة التى رسمتها للبشر “ .
فإذا كان لفظ العقيدة فى حد ذاته ذى دلالة معقدة ومركبة هكذا .. فعلينا أن نتخيل مدى تأثير عقيدةٍ ما ..بدأت واستمرت لما يزيد عن 10500 عام من عمر البشرية قبل ميلاد السيد المسيح.. فيكون من المنطقى أن مثل هذه العقـيدة - وخاصةً إذا تميزت بالنضج - وكذلك بكونها تمثيلاً لمركزٍ للإشعاع والتنوير فى العصور القديمة أن يكون لها أكبر الأثر على طريقة ورؤية البشرية لفكرها الدينى التالى لها .
وأما من حيث النضج .. فهناك الكثير من الباحثين فى مجال المصريات Egyptology المعاصرين وخاصة هؤلاء المنصفين .. ممن يؤكدون أن المصرى القديم لم يكن وثنياً Paganism أو متعدد الآلهة طوال تاريخه كما يُروج له عالمياً بل ولأبنائنا فى مناهجهم التعليمية .. ومن أهم هؤلاء الباحثين المصريين الدكتور / نديم السيار الذى صدر له كتابان فى غاية الأهمية يبحثان ويجمعان الأدلة القاطعة على هذه النظرية التى تؤكد على أن المصريين القدماء كانوا أول الموحدين ولذا فإنه من المتوقع أن تكون هذه الصور وتلك المعبودات المختلفة عندهم ليست سوى مقدسات ترمز إلى صفات مختلفة للإله الواحد فعلى سبيل المثال وكما ذكر د. وسيم السيسي فى مقالاته عن المصريات ، نجد أن ” الشمس دليل على قوة الله الكونية ، والصقر ليس له جفون والله لا يغفو عن رؤية البشر ، والقطط مبعوثة العناية الإلهية لمكافحة وباء الطاعون .. وهكذا…
ومنذ أن استطاع العالم الشهير ( شامبليون ) من فك رموز الكتابة الهيروغليفية§2 فى أوائل القرن التاسع عشر حدثت الكثير من الأخطاء عند الترجمة للعديد من النصوص المصرية القديمة .. وذلك نتيجة لكون المترجمون معظمهم من الأجانب ” فنظراً لاختلاف الثقافات ، ولأن اللغة المصرية القديمة كانت تقوم على تركيبات بين المعانى والألفاظ ، كما كانت تنبنى على تأثير النطق فى الماديات والأحداث ، هذا فضلاً عن المجاز الذى اشتهرت به هذه اللغة ، لكل أولئك فقد أخطأ علماء المصريات فى فهم الكثير من المعانى وألفاظ اللغة الهيروغليفية ، ومن ثم اختلطوا فى ترجمة الكثير من النصوص والكلمات ، ومن أهم الكلمات التى طالها الخطأ لفظ ( الإله ). ففى اللغة المصرية القديمة يوجد لفظ واحد للتعبير عن الإله والرب والسيد ، هو (نتر)NETER ، فلفظ رب فى بعض اللغات الشرقية يستعمل فى التعبير عن السيد أو الرئيس فيقال رب البيت ورب العمل ، ويجمع فيقال مثلاً أرباب المعاشات…وهكذا ، ويستعمل كذلك فى التعبير عن الإله أو الخالق فيقال رب الكون أو رب العالمين.. غير أن قدماء المصريين وإن اتفقوا على نطق لفظ ( نتر ) فى التعبير عن السيد والرب والإله فقد ميزوا فى الكتابة بينهم ، فكان يشار الى لفظ السيد أو الرب بعلم واحد ، وإلى الثالوث ” ثلاثة أرباب ” بثلاثة أعلام ، أما إله الكون الخفى ذو الأسماء التى لا تحصى ولا تعد فكان يشار إليه بسبعة وعشرين علماً.. أو تضاف إليه عبارة تعنى ( خالق الكون كله ) أو يقال عنه الله الواحد Neter Uno ” ، وهو الذى لم يظهر له تمثال واحد على أرض مصر ( وذلك حسب ما جاء فى أحد الأبحاث الشهيرة للمستشار وعالم المصريات محمد سعيد العشماوى )
أما أخناتون ( أمنحوتب الرابع ) الذى عرف عنه أنه أول الموحدين بالعالم القديم ، فمن هؤلاء العلماء من يرون أنه كان أول الموحدين للرموز بالعقيدة المصرية القديمة ليس إلا.. رغبة منه فى التخلص من السلطان الكهنوتى الذى كان قد وصل الى ذروته آنذاك .. ولكنه كشاعر وفيلسوف قد أبدع فى توحيده من خلال التصوف والأشعار والإخلاص المطلق لعبادته.. حتى أقر عدد من الباحثين والعلماء بأن هناك الكثير من تراتيله التى نقل عنها فيما بعد بمزامير داوود وغيرها من التراث اليهودى .
ويؤكد هذا التوجه - أى الخطأ فى فهم ونشر أفكار ومعلومات عن الحضارة المصرية القديمة - عالم المصريات المعاصر ( إيريك هورنونج ) بقوله أن ” سوء الفهم والتفسير الخاطئ الذيْن وجدا منذ زمن قديم - من الفترتين اليونانية والرومانية- قد فَرضا الحصار على فهمنا لمصر الفراعنة وبتطور علم المصريات وحده ، أتيحت قراءة أوضح للخيال المصرى ”
ويلفت انتباهنا لفظ ( خيال ) فى نهاية هذه المقولة .. حيث أن بالفعل هذه الكلمـة هـى أدق ما يمكن أن نعبر به عن هذا الفكر العبقرى الذى تجلى فى أدب التحولات أو ( المسخ ) (Metamorphose) الذى سبق أمثاله فى الأدب اليونانى بمئات من الأعوام وهو ذاته الفكر العبقرى الذى تجسد بتفرد وإبداع فى صورة فنون تشكيلية مـن عمارة ورسوم وتصوير ونحت .. إلخ ، وذلك كله فى وحدة عضوية لا متناهية مع الفكر.. فسواء كان المصرى القديم من المؤمنين بعقيدة التوحيد أم لم يكن .. إلا أن خياله كان خصباً .. تَمَثل الرموز فى شتى أنواعها من كائنـات بشــرية أو حية أخرى أو حتى فى الصور الكونية الكبرى مثل الكواكب والسماء والشمس والقمر وما إلى ذلك من رموز تناسجت جميعها فى تصميم واحد قويت خيوطه وشكّل بقوامه الفكر المصرى القديم.. وظهرت إبداعاته فى الأساطير المصرية القديمة ولا سيما أساطير الخلق.. التى نهلت منها شتى الحضارات الإنسانية اللاحقة .
_______________________________________________
§1 - لاهوت مدينة منف هو الذى يقول بخلق الإله عن طريق الكلمة..، ولاهون مدينة (أون) أو (هليوبوليس) صاحب فكرة الثامون المقدس.
§2 تعنى باليونانية الكتابة المقدسة دلالةً على علاقتها القوية بالنصوص العقائدية والروحانية عند المصرى القديم..الذى اعتقد أن الرب (تحوت) كان أول من علمه الكتابة وهى بمثابة الخطوط التشكيلية للنصوص الإلهية..مثلما تتجسد قداسة القرآن الكريم فى الحروف العربية..، وفى تفصيل آخر تنقسم الكلمة إلى جزءين (Hyro) بمعنى ما ينتمى إلى ملوك مصر و(Glyph) بمعنى الشكل ذو الدلالة الكلية (تيموثى فريك وبيتر غاندى – متون هرمس – المجلس الأعلى للثقافة – 2002 - ص 13 )
.…………………………..